عبدالرحمن ابن خلدون (ت:808هـ).. يذهب في تنظيره للدولة؛ بأنها لا تُعمَّر أكثر من أربعة أجيال، كل جيل حوالي ثلاثين عاماً، وقد تحدثت عن تطبيقات الرؤية الخلدونية على الدولة العمانية، وبيّنت أنها انطبقت عليها مرتين: الدولة المركزية الأولى (177-272هـ) بحكم اليحمد. والدولة المركزية الثانية (1034-1131هـ) بحكم اليعاربة. المقال.. يطرق الخطاب الثقافي -بكونه من مكونات الدولة الحديثة- وفقاً للتحقيب الخلدوني.
في مقال «السلطان قابوس بن سعيد.. وعمان جديدة»، «عمان»، 20/ 11/ 2024م .. بيّنت أن السلطان رحمه الله أدرك أبعاد النظرية الخلدونية، وسعى إلى تجاوزها ببناء دولة المؤسسات والقانون. وقد تعرضت لمراحل الثقافة العمانية في مقالاتي، ودرّستها لطلابي في المرحلة الجامعية، وهنا أدرُس الثقافة بكونها مرحلة للإسهام في البناء للمستقبل واستمرار الدولة، حتى لا نقع في «المأزق الخلدوني».
إن مراحل الثقافة العمانية الحديثة أربع؛ أدمجها في «جيلين»؛ هما:
- الجيل الأول.. توحيد الرؤية الثقافية، وقد بدأ بقيام النهضة الحديثة، وجاء على مرحلتين: مرحلة التأسيس.. في عقد السبعينات، وفيها شكّلت الدولة هُوياتها؛ منها الهُوية الثقافية. مرحلة البناء.. انطلقت بإنشاء وزارة التراث القومي والثقافة عام 1979م، واسم الوزارة لخّص الرؤية التي اعتمدتها الدولة حينها للحقل الثقافي، وهي ربط الثقافة بتراث عمان الإسلامي وبُعده القومي العربي.
الجيل الثاني.. التعددية الثقافية، ابتدأ بإلقاء السلطان قابوس خطابه المفصلي في 2 مايو 2000م، وهو مستمر حتى الآن، وملخّص رؤيته (لن نسمح لأحد أن يصادر الفكر أبداً)؛ بتوجيه صريح للتعددية الثقافية. هذا الجيل أتى أيضا على مرحلتين: مرحلة المجتمع المدني.. حيث أشركت الدولة المجتمع في البناء الثقافي عبر التشريع بإنشاء مؤسسات المجتمع المدني. ومرحلة الحوكمة.. التي ينبغي تطبيقها على الثقافة لجعلها قابلة للتقييم وفقاً لـ«رؤية عمان 2040» التي تسير الدولة على هديها، وهذه المرحلة.. ينبغي ألا تتعدى عام 2030م، للانتقال إلى الجيل الثالث.
الجيل الثالث من التكوين الثقافي.. هو «الخطاب الفكري للثقافة»، لا أطيل الحديث عن الخطاب ومفهومه، فقد تحدثت عنه في ورقة «خطاب الكراهية والمعالجة العمانية» ألقيتها في جامعة أكسفورد ببريطانيا عام 2019م، وأكتفي ببيان أن الخطاب منظومة شاملة.. تشمل نص الخطاب؛ ظاهره وفحواه ودلالته، ومكان إلقائه وزمانه، ومرسِله ومتلقيه، ولا يقتصر على اللسان والمداد، وإنما يتعدد بحسب الوسائل المتاحة والمناسبة، والأهم؛ أنه ينطلق من رؤية فكرية مقصودة، وبيئة اجتماعية حاضنة، وعمق ثقافي مؤثر، بغية ترسيخ نمط سلوكي معين، أو تغيير رؤية وممارسة قائمة باتجاه رؤية جديدة يتغياها صاحب الخطاب.
سلطنة عمان.. عملت في جيلها الأول على توحيد الرؤية الثقافية، لكي تكتسب الدولة الصلابة السياسية والوحدة الوطنية والانسجام الاجتماعي. وعندما اكتملت مؤسسات الدولة، وأصبحت متطلعة إلى التعددية الثقافية؛ لتستفيد من التنوع الثقافي في المجتمع العماني، وتستوعب ثقافات المهاجرين إليها، وتواكب متطلبات النظام العالمي الجديد؛ التي شهدها عقد التسعينات، انتقلت الدولة إلى جيلها الثاني، وعمدت إلى التشريع لمؤسسات المجتمع المدني. عملت الدولة في المدة الماضية على وضع فلسفة للثقافة والبُنية الأساسية لها، وإشاعة مفهومها في المجتمع، عبر وزارات الثقافة المتتالية، والنوادي والمكتبات والمراكز الثقافية والجمعيات ذات الشأن الثقافي، وهذا تمهيد مهم لكي تصنع عمان خطابها الثقافي، ويكون للدولة «ناطقون بالثقافة»، أي؛ منظرّون لها ومعبّرون عنها، فالذي لدينا حتى الآن إنتاج معرفي وفني تعمل المؤسسات على إبرازه.
الجيل الثالث.. جيل مهم للمستقبل؛ لأجل أن يهيئ الدولة والمجتمع لتحول كلي؛ بالخروج من النمط الحالي والدخول في نمط جديد. إن ما نشهده من تحولات على المستوى البشري بما فيها التقنية الرقمية؛ يجعل أقصى مدى للنمط القديم للدول والمجتمعات القائمة عموماً هو نهاية هذا القرن، وعلى عمان.. أن تستعد لمواصلة وجودها الحضاري والمؤثر عالمياً، متجاوزة «النظرية الخلدونية». لقد بدأنا قطع النصف الثاني من الطريق، وهو الأصعب بحسب التحولات والتحديات التي نعيشها، ولكن بعزيمة وحكمة ورؤية مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق أدام الله مجده يتمهد الطريق، ونصل للغاية المنشودة.
وفقاً لبُنية الدولة وهياكلها القائمة؛ كان الخطاب الثقافي جزءاً من النطق السامي لعاهل البلاد، مشكلاً الرؤية الكلية للدولة والمجتمع، بيد أنه ينبغي أن تترجم هذه الرؤية عبر الممارسة الاجتماعية من خلال المؤسسات، بإعداد فئة مقتدرة على التنظير لمسارات الخطاب، والعمل على دراستها في المجتمع؛ وهي خطابات كثير منها وافد على المجتمع العماني، لستُ ضد التثاقف مع الآخرين.. بل أعتبره حتمية وجودية وضرورة إنسانية، وإنما علينا ألّا ننسى خطابنا الثقافي، الذي تقف وراءه حضارة عمرها آلاف السنين. علينا أن نصنع مفكرين في الخطاب الثقافي، بتحليل الخطابات القائمة، ونقدها نقداً بنّاءً، ثم طرح خطاب يحتاجه المجتمع وفق رؤية الدولة.
وأقترح خمسة حقول كبرى لتحقيق ذلك:
- الحقل التاريخي.. أقصد به الكشف عن مسار الثقافة العمانية الطويل؛ بوضع مداخل للعلوم العمانية، التي لم تُفرَد لها حتى الآن دراسات متكاملة، فنحن بحاجة إلى مدخل للأدب والشعر، ومدخل للفلكلور والفنون، ومدخل للتشريع والقضاء، ومدخل للفقه والفكر، ونحوها. هذه العلوم.. هي التي شكّلت ثقافتنا، وهي مركبتنا نحو المستقبل، فلابد من دراستها، لمعرفة أصول ثقافتنا ومسار تطورها، ولتقريبها من الأجيال القادمة، ونشرها عالمياً.
- الحقل الاستراتيجي.. بخطوة نوعية؛ وضعت وزارة الثقافة والرياضة والشباب عام 2021م لأول مرة استراتيجية للثقافة، بيد أنها كأي عمل مبدئي؛ عليه أن يخضع للتقييم والتطوير، فالاستراتيجيات غالباً ما تكون عامة ومرنة، بحيث تفسح المجال لمراجعتها وتطويرها، وهذا ما نأمله من استراتيجيتنا الثقافية، خاصةً؛ أنها وضعت تحت محك الحوكمة، ضمن مبادئ «رؤية عمان 2024». إن أهم ما يمكن أن تسعى إليه الاستراتيجية الحالية هي الحوكمة، ولا يتأتى هذا إلا بدراسة الحراك الثقافي في البلاد بمنهج علمي ومعايير موضوعية وأدوات أكاديمية، تحوّل الظاهرة الثقافية إلى بيانات مقروءة؛ قابلة للتعامل معها بوضوح وحكمة.
كان ينبغي أن تقام الدراسة قبل وضع الاستراتيجية، ولكن لم يفت الأمر؛ فبالإمكان تنفيذها باعتبار الحوكمة إحدى العناصر التي وجهت إليها الاستراتيجية.
- الحقل التخصصي.. لا يوجد لدينا متخصصون في الثقافة، ما لدينا علوم وآداب ينتجها باحثون وأدباء، وهذا مهم وأساسي، بيد أنه لابد من خطوة نحو الأمام؛ وهي صناعة المتخصصين. وقد جاءت اللحظة لتُعنى الدولة بإيجادهم؛ بدايةً من الفلاسفة والمفكرين وانتهاءً بـ«دعاة الثقافة العمانية»، وهم الذي يعملون على نشرها في الاجتماع البشري؛ المحلي والعالمي، من مختلف منابر التواصل الاجتماعي؛ الواقعي والافتراضي. نريد فلاسفة ومفكرين و«دعاة» للثقافة العمانية، يسهمون في البناء الحضاري؛ العماني والإنساني.
- الحقل البحثي.. بإنشاء مراكز لإعداد الكوادر الثقافية، سواءً المتخصصين الذين أشرت إليهم، أم الناشئين ثقافياً؛ فكرياً ومعرفياً وفنياً، بإقامة مختبرات وورش عمل، ينفذها أساتذة متخصصون، لنخرج من «الاجتهاد المشتت» إلى «الإبداع الممنهج» في الثقافة.
- الحقل الريادي.. ريادة الثقافة العمانية عالمياً في عصر الذكاء الاصطناعي ضرورة لاستمرارنا في عالم المستقبل، وعلينا البدء من الآن في الاشتغال عليها، والريادة.. لا تعني التمكّن الرقمي وحده، فهذا هو الأسهل في عالم اليوم والغد، وإنما التمكّن الثقافي ذاته هو الأساس، وحضور البُعد الفلسفي والرؤية الكلية القائمة على تحليل المفردات الثقافية، والربط المحكم بينها، لذا؛ ينبغي أن يتحرك هذا الحقل متآزراً مع الحقول الأربعة السابقة.
هذه بعض المقترحات المرجو من وزارة الثقافة والرياضة والشباب النظر فيها وتقدير مدى تنفيذها، حتى ننتقل إلى الجيل الثالث للثقافة، ضمن البُنية المستقبلية للثقافة التي يوليها الاهتمام صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم حفظه الله.
0 تعليق