بعثت شركة جوجل في إطار ترويجها لتطبيقها الجديد جي ميني Gemini المخصص للصغار، الأسبوع الماضي رسالة للآباء والأمهات، المحفوظة بياناتهم من قبل في برنامج الرقابة الأبوية، لتعلن لهم عن تطبيقها المزمع إطلاقه قريبًا، والمخصص ليساعد الصغار على حل واجباتهم المدرسية وإنجاز مشاريعهم المدرسية، واكتشاف مواهبهم المختلفة، وفي تلافيف الرسالة الترويجية تورد الشركة بعض التذكيرات للآباء والأمهات مثل أن التطبيق بلا تفكير ولا مشاعر ذاتية وإن بدا أنه يتكلم ويجيب كالناس، كما تذكرهم أن الشركة تخلي مسؤوليتها مسبقًا، تحسبًا لأي ملاحقات القانونية، عن أي أضرار مستقبلية قد يسببها التطبيق للناشئة، إذ إن التطبيق، رغم التدابير المتخذة من الشركة لترشيح وفلترة النتائج، لا يضمن تمامًا عدم تعرض الصغار أثناء استخدامه لمواد غير لائقة: عنيفة، أو خادشة للحياء.
ظاهريًّا يبدو أن هذه الرسالة متناقضة ولن تؤدي الغرض الترويجي والإعلاني منها وقد تؤدي لعزوف الآباء والأمهات عن التطبيق الجديد، وعادة تكتب الشركات مثل هذه المحاذير القانونية إما بخطوط صغيرة، أو في مستندات طويلة جافة ثقيلة على القراءة، لكن الواقع أن هناك محركات وجواذب أخرى ستجعل التطبيق الجديد يجد طريقه إلى أيدي الصغار رغم المخاطر.
في شهر أبريل المنصرم خلص تحقيق تابع للرقابة الإعلامية في بريطانيا إلى استحالة تجنب الصغار مشاهدة المواد العنيفة على الإنترنت، وذكر كل الأطفال المشاركين في التحقيق أنهم تعرضوا لمشاهدة مواد عنيفة أثناء تصفحهم الإنترنت، وأنهم يفضلون عدم الإبلاغ عنها إلكترونيًّا؛ لأن تجاربهم تبين أن الإبلاغ الإلكتروني عن تلك المواد يجعل الخوارزميات بالعكس تظهرها لهم أكثر.
كذلك استوقفني طويلًا الأسبوع الماضي تحقيق نشرته صحيفة الجارديان، من مدينة أكرا عاصمة غانا، عن شابين تعرضا للفصل من العمل بعد أن كانا يعملان لدى إحدى شركات التقنية التابعة لشركة ميتا، وحسب إفادة الشابين اللذين توظفا كـ«مشرفي محتوى»، أن مثل هذه الوظائف تتضمن ما يشبه التجارب على التحمل، منها التعرض بشكل شبه دوري إلى المشاهد العنيفة والشنيعة، بما فيها الجنس الشاذ، وتشويه الأجساد، والاستغلال الجسدي للأطفال، كما ويفيد الشابان من تجربتهما أن المشاهد بعد الصدمة الأولى يبدأ في التعود على ذلك بمرور الوقت، لكن ما حدث هو أن أحده الشابين انهار نفسيًّا وعقليًّا بعد ثمانية أيام، مما اضطره للجوء لعلاج نفسي بعد أن تم تشخيصه باضطراب عقلي ونفسي وميل للانتحار.
ذكرني هذا التحقيق بأجواء مشاهد التحقيق في رواية «الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى» لعبدالرحمن منيف، أو رواية ١٩٨٤ لجورج أورويل، وتساءلت كما قد يتساءل المرء ما الذي يجعل الشركات تعرّض موظفيها لمثل هذه التجارب؟ ولعل الإجابة الأقرب هي أن الشركات تحاول عبر هذه التجارب المتطرفة اكتشاف حدود قدرات وإمكانيات برمجياتها على التحكم أكثر بالمستخدمين، وإلى أي حد يمكن الدفع بعموم المستخدمين لاتخاذ ردات الفعل المستهدفة.
تتفق عدة دراسات اليوم أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت من أكبر مسببات الانعزال والانطواء والوحدة وعدم الاختلاط الاجتماعي، وتلك الوحدة هي وحدة انكفائية، مستلبة، عمادها التشويش المستمر، وليست وحدة خلاقة من أجل تأمل العالم بشكل أوضح وأفضل كما كان كبار الفنانين والأدباء يفعلون في الماضي، إذا استعدنا مثلًا هنا بعض شخصيات القرن التاسع عشر مثل ليو تولستوي الروائي الروسي سواء في كتاباته الناقدة لتدخل الدول الحديثة بمفاصل الحياة الطبيعية للناس، أو في حياته في يسنايا بوليانا منزله الذي يبعد اثني عشر كيلومترًا عن أقرب مدينة هي تولا غرب روسيا، أو الأمريكي هنري ديفيد ثورو صاحب كتاب ولدن Walden، في تطبيقه العملي للخروج من إطار السيطرة ودفع الضرائب الإلزامية، عبر الإقامة قرب بحيرة ولدن. لكننا حين نستعيد ذلك اليوم يبدو لأغلبنا رومانسية مغرقة في الخيال، وانقطاعًا عن الناس، مع أنها تجارب ما زالت ممكنة، بل وأصبحت الشركات السياحية تسوقها لزبائنها، وما زال الناس، القادرون منهم على الأقل، يحاولون اللجوء إليها عبر الرحلات البرية لاستعادة أجزاء ثمينة داخلهم استنزفتها منهم الحياة المدنية المعاصرة، هدوئهم النفسي، مرحهم، طمأنينتهم الداخلية، حيويتهم، وباختصار طاقتهم، والاستحواذ الرقمي اليوم يجعل الأمر أكثر سوءًا بدفع جميع مستخدميه إلى عزلة كئيبة بالمحصلة.
تكفينا اليوم نظرة واحدة متأملة لندرك استغراقنا في التقنية الحديثة، وهذا الاستغراق الشامل والمتجاوز للأجيال لم يعد إراديًّا، بل تحول فعليًّا إلى إدمان اجتماعي، ففي الممارسة الرقمية العامة نجد أنفسنا وسط سيول من البيانات تشوش علينا تمييزنا، تديرها خوارزميات متقدمة، أصبحت تدرس كل مستخدم على حدة، وتراجع تاريخ بياناته بسرعة، وتقوده، حرفيًّا، إلى التفضيلات القريبة منه، ولعلها تصل به في النهاية إلى الثقب الأسود، حيث لا شيء غير مزيد من التعرض للبيانات التي لا تتوقف، إلى أن يؤثر عليه مؤثر خارجي يخرجه منها، لا خطر طبعًا في ذلك ما دام إراديًّا، لكن كونه لا إراديًّا ويتم عبر السيطرة الإلكتروني فهنا مكمن الخطورة، فالأجهزة لا يمكنها التقرير في حياة الناس وأوقاتهم، ما دمنا نتفق على أنها بلا مشاعر.
لا شك فتحت التقنية المعاصرة الكثير من الآفاق، وسهلت الكثير من المعاملات والأعمال المختلفة، وخلقت أسواقًا وأعمالًا جديدة، وقربت المعلومة ممن ينشدها، وصار أول تساؤل يخطر على البال يوجه إلى محرك البحث، جوجل، google it، بينما جوجل نفسه صار يخصص النتائج بناء على بيانات المستخدم، ولم تعد النتائج عامة كما نحسب، بل هي مخصصة حسب المناطق والبلدان، بل وحتى المقاطعات والولايات، ويحدث في أحيان كثيرة أن لا نجد المعلومة التي نبحث عنها رغم أنها واضحة بالنسبة لنا، وينهار البحث بعد الصفحة الأولى أو الثانية بسيل لا علاقة له بموضوع البحث، كل هذا بينما أصبحت محركات البحث المختصة والمعرفية، إما مقتصرة على الأكاديميين والباحثين، أو تتطلب اشتراكًا شهريًّا، وهو ما يدعوه بعض الاقتصاديين اليوم الإيجار الرقمي، وهو إيجار صرنا ندفعه مرغمين حتى لخدمات نادرًا ما نستخدمها.
رغم ذلك ما زال هناك أفق حقيقي، ولكنه أفق، كما هو واضح، سيمر بامتحانات عسيرة، ولن يكون الوصول إليه بتلك السهولة التي نتوقعها، لأن الأفق الحقيقي يكمن في ممارساتنا نحن، انكشافنا بتعبير هايدجر، وبالتالي سرعة وعينا واستيعابنا لما يحدث، وعدم استسلامنا المطبق لما يفرض علينا إلكترونيًّا، فبقدر مستمر من الوعي والمقاومة، فرديًّا أو جماعيًّا، وبزيادة الوعي العام نحو الاستخدام الآمن للتقنية، خاصة للصغار والشباب المستهدفين والمعرضين للخطر أكثر، وعدم اسلاس القياد لمنصات مسيسة لخدمة الشركات وتوجهات ملاكها، والمشاركة الفعالة في الفضاء الرقمي بإطلاق منصات جديدة منافسة، تحترم خصوصية المستخدمين وتطبق مبدأ شفافية البيانات، وأولوية المستخدمين.
كان إدوارد سعيد في نطاق حديثه عن سياسات الأبواب المغلقة، يذكر أسلوبًا يدعوه التكنولوجيا المخادعة: «هؤلاء الذين اخترعوا تكنولوجيا مخادعة لم تتجاهل فقط الأخلاق وكرامة الإنسان، بل حتى المنطق نفسه» وأتمنى ألا يكون هذا هو واقع التكنولوجيا اليوم في سعيها لاستعباد الإنسان رقميًّا.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
0 تعليق