في هدأة من وضعه المتقلب، يتفقد رجل يعيش حال الحرب في غزة، ليس غريبا أن تكون ساعات نومه لا تتعدى 3 ساعات تقريبا دون سماع صوت انفجارات.
ينظر إلى سقف الخيمة المهترئ، يفكر في صباح الغد، ما سيفعل؟ يتمتم بالكلمات التي لا يسمعها إلا هو: سيكون هناك طابور المياه المالحة، ثم الذهاب لمكان حضور سيارة المياه نصف العذبة «ماكروت» التي لم تعد تأتي كل يوم، وعند الانتهاء يجب أن يكون أمام التِّكية في تجمع غير متجانس من كافة الأعمار، وبعد ذلك يليه أخذ كيس ليجمع فيه الأوراق والأعواد الصغيرة والنايلون وما يكون في الأرض حتى العشب، لتكون كل هذه الأشياء عنوانا لمُعينات الحطب لإشعال فرن طيني للخبز.
كل ذلك يبدو تفكيرا ساذجا في سنة 2025، اللهاث وراء المساعدات الإغاثية التي انتهى زخمها بعد انتهاء الهدنة الثانية، وتشديد الحصار الإسرائيلي، ومراقبة ارتفاع الأسعار الجنوني، ثم تتّبع أي خبر يحمل رمق أمل للخلاص من هذه الحرب المسعورة، كل ذلك لمجرد التفكير، كيف ومتى وأين؟!
تربت زوجة الرجل على كتفه قائلة: لنا الله.
لا أحد يطلب احتياجات العائلة اليومية إلا من رب الأسرة، هو المكلف بالتفكير والتدبير، وأحيانا كثيرة التنفيذ، وإن كان له أبناء فيكون التنفيذ عليهم مع مراقبتهم، فكل خطأ يكلف مالا لا يُسترجع. أصعب الأحوال في غزة حين تهبط منشورات ورقية تطالب أهالي المنطقة بالإخلاء الفوري، والتي بدَّلها بالإعلان عبر صفحتي ضباط إسرائيليين كالمنسق أفيخاي أدرعي على الفيس بوك، ومن ليس لديه إنترنت سمع ممن حوله، وهنا تتراكم الأسئلة أين وكيف وأين ستذهب العائلة، وكيف ستكون وسيلة النقل للأمتعة، أهي وسيلة التوك توك أم عربة يجرها حمار، ومدة الحرب طالت واستطالت، كل هذه الأسئلة والأفكار تتجمع مزدحمة في دماغ كل رجل غزّي لديه عائلة ومسؤولية أسرة.
وبين كل هذا وذاك ينتاب الرجل قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنا نعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال»، فأما الدَّين فلم يعد أحد يُداين، وأما قهر الرجال، فلقد خبره الرجل في غزة من حوادث كثيرة وتكالب التجار على رفع الأسعار دون رحمة، ومن الحرب الطاحنة التي تدور دون أن تهدأ.
هل يمكن أن نتخيل أن هذا الرجل عمره ما بين الستين والسبعين عاما! ليس لديه أبناء، فهم مشتتون بعيدا عنه، كيف سيكون حاله، وهو يلهث ماشيا على الأرض الرملية المتعبة القريبة من البحر، ينبش في الرمال ليقتلع نبتة جافة أو خضراء ويجرها إلى حيث الفرن الطيني، ينظر إلى السماء يلهج بالدعاء دامعا: يا رب ارحمنا.
يأتي الليل فلا راحة من أصوات الخيام الملتصقة ببعضها، فلا خصوصية حتى في الحمَّام البدائي!
لم يعد يصدق ما يسمع من أخبار، لم يسمع وهو لا ناقة له ولا جمل بعد تهدُّم شقى عمره!
لقد نسيَ هذا الرجل الابتسامة، ويتعجب حين يسمع ضحكات غيره! من يملك الضحك في فوهة الموت!
قبل يومين -والأيام في الحرب متشابهة- أُطلقت قذيفة مدفعية على عدد من الصبية الواقفين في شارع في بلدة خزاعة شرق خان يونس، أودت بحياة صبي وصبية ورجل وإصابة عدد من المارة، وإحدى هذه الحالات دخلت المشفى وإصابتها أسفل قدمها، وقرر الأطباء بترها، وهنا اعتمت الدنيا في وجه والدها، فبتر قدم صبية ليس كبتر قدم صبي، أنجدها من حالة البتر لبعض الوقت وفد أجنبي في المشفى، حيث أرادوا عملية أخذ اللحم من الفخذ وزرعها في المنطقة المتهتكة، لكن الأمر لم يسر كما يُراد فالعظام لم تعد تحتمل أن تسند اللحم، فقرر الوفد بتر قدمها.
حضر ممرضون نفسيون ليؤازروا الصبية ويخففوا من هول المصيبة قائلين: سيكون مستقبلا المشي بقدم صناعية بشكل طبيعي كأي فتاة طبيعية، لكن حسرتها وحسرة أبيها تعلم أن بتر قدمها لن يعوضه شيء، كان الوالد يفكر: كيف ومن سيتزوج فتاة مبتورة القدم!
أدخلت الصبية غرفة العملية فانخفضت نسبة دمِّها إلى 7، مما جعل الأطباء يؤجلون العملية للغد، وحين أدخلوها أشارت لوالدها ملوِّحة: «مع السلامة يابا»، في مشهد أبكى الأطباء والممرضين والعائلة.
أكتب هذه الكلمات ودمعي يترغرغ في عيني، ينادي بائع عربة يجرُّها حمار، وفمه يصدح بأسعار الخضراوات الفلكية: معنا بندورة 40 شيكل، معنا الخيار 30 شيكل، معنا بصل 50 شيكل، والتي كانت بنفس مجموع سعرها تكفي عائلة شهرا كاملا، باتت لا تتعدى أيامها أصابع اليد الواحدة.
يوما ما؛ جاء الابن الأصغر مبتهجا، يتراقص صائحا: هيييه بابا معه أكل، دخل الأب الخيمة حاملا 3 لفَّات من الأرز أو ما يسمى «الكبسة»، وزعها مبادر نشيط لمساعدة النازحين، تلألأت أعين الصبايا، وقالت إحداهن: رائحة لحم، تجمعت العائلة على الأكل، وما إن فتحوا لفَّات الكبسة حتى تبدد توهجهم إلى ابتسامة صفراء، وهم يتبرمون: فش لحم، فتبسم الأب قائلا: ولَّى عهد اللحم، الآن الأرز وليته يظل. في جلسة لوحده؛ يتساءل الرجل: ماذا فعلنا نحن كي يصب علينا كل هذا العذاب منذ عام ونصف، حمم القذائف والصواريخ الملتهبة تخرق أجسادا لا حول لها ولا قوة.
أن تكون رجلا في غزة يعني أن تتحايل على تحمل المسؤولية وأنت في داخلك جرف هار، كيف يمكن أن يصمد رجل أمام الفقر والقهر والعوز وسوءات الحروب؟
ينادي وهو يحمل أقفاصا صغيرة وأكياسا أخرى، يدور حول مخيمات النازحين؛ صائحا:
صيَّادة فار
سم فار
مبيد ذباب
5 شيكل صيادة الفار!
الرجال في غزة حين يقتلون؛ أحسب أن أرواحهم لا تزال تفكر في عائلاتهم وحالهم، تطاردهم المسؤولية وهم موتى في أسئلة كثيرة: من سيأتي بطعام التِّكية؟ من سيعبئ لهم المياه؟ من سيحتطب لهم؟ من سيكون الرجل القادم في هذه الحرب!
طلعت قديح شاعر وناقد فلسطيني من غزة
0 تعليق