الناصرية الحائرة: بين نقد النخب ورومانسية الجماهير!

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أعتقد أننا بحاجة إلى استعادة أنفاسنا بعد الصخب الإعلامي الذي رافق انتشار التسجيل الصوتي لحديث الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، في مرحلة متأخرة من حكم الأول.

الحديث، كما بدا لنا، كان مثقلاً بإحباطات عبدالناصر؛ كمحارب أنهكته الحروب الخارجية التي خرج منها صفر اليدين، فضلاً عن مواجهته لجبهة الصراعات الداخلية بين التيارات الفكرية التي هيمنت على مشهد الأحداث آنذاك، وأثرت سلباً على تماسك المشروع الناصري، بالرغم من حماسته القومية وتطلعاته إلى بناء نموذجه الخاص للعدالة الاجتماعية والممارسة الديموقراطية، مما أفقده، في نهاية المطاف، الكثير من بريقه في أعين مواليه بعد رحيل قائده الرمزي وأبيه الروحي.

وعند النظر في ردود الأفعال الكبيرة والمتضاربة -أحياناً- تجاه حوار لحظة الصفاء بين رئيس متعب وآخر متحمس، بإسقاطاته السياسية التي تتقاطع مع مجرى الأحداث المعاصرة، يتضح لنا أن العقل العربي بات يألف أزماته، بل ويتكاسل عن استنهاض مجتمعاته لممارسة دورها كقوى تغيير فاعلة ضمن حركة بناء الحاضر والمستقبل. إذ لاتزال «الانتلجنسيا» العربية، أو الطبقة المثقفة والنخب المفكرة، تصارع حتى اللحظة لإنفاذ أفكارها ومعالجاتها لتفكيك أزمات الواقع، وتحرير العقل العربي من «ورطته» الكبرى.

و»ورطة العقل العربي» ليست مجرد تعبير مجازي أو فكرة عابرة يرددها المحبطون، إنما توصيف مدروس لطيف واسع من المفكرين، الذين غالباً ما يجدون أنفسهم عاجزين عن تحرير ذهنية الجماهير الغفيرة من إشكالاتها الثقافية العميقة، ومن علاقتها المشوهة مع الذات وتجاه الآخر، لتبقى بنية الفكر العربي رازخة تحت وطأة المواجهة المستمرة مع تناقضاتها المتعددة.

فقد بُحّ صوت عقلاء الأمة وهم ينبهون إلى حالة التشويش التي يعاني منها العقل العربي، المتذبذب بين صراع الهوية والانتماء، وبين تمسكه بالتراث وتطلعه إلى الحداثة. يُضاف إلى ذلك غياب التوافق بين العقل والدين، وبين الدين والدولة الوطنية، وبين القطرية والقومية، وبين الرأسمالية والاشتراكية، وبين الشرق والغرب، إلى آخر قائمة طويلة من الثنائيات المتخاصمة التي تعمّق أزمة الوجود.

والأمر الثابت، مع استمرار هذه الحالة المستعصية بلا علاج، هو ضعف -ولربما غياب- الإرادة المسؤولة عن إقامة مشروع يؤسس لدولة مستقرة تُدار وفق مقاييس التقدم الحضاري. دولة تندمج فيها كافة مكونات المجتمع، ضمن رؤية سياسية جادة، قادرة على تطوير الواقع ومقارعة عدوها سلمياً، بالتفوق عليه علمياً ومعرفياً وتقنياً، كبديل، لابد منه، لسياسات المقاومة الانتحارية والرومانسية التثويرية، التي تهدر إمكانات الشعوب في تقديس الرموز وتخليدها، إلى أن تصطدم بجدران الخيبة من الوعود الهشة.

وعند العودة إلى الحوار المسجل بين الرئيسين، يتبيّن أن عبدالناصر كان يشعر بالخذلان، وهو يحاول إزالة آثار العدوان عن كاهله، ويتصدى للمزايدات التي شنّت حربها عليه بعد هزيمة حزيران، بشعار «عبد الناصر.. يا جبان»! وكأنه وصل إلى لحظة إدراك مؤلمة بأن خيار «رمي إسرائيل في البحر أو لا شيء على الإطلاق» هو «أم الورطات».

وبحسب منطق التاريخ وقت الهزائم، ولأن مراجعة المواقف أشجع من شجاعة الشجعان، كان عليه أن يجد مخرجاً ينهي حالة الحرب، ويقبل بخيارات التسوية السلمية وصولاً إلى السلام المتبادل، كما وُعد به ضمن مبادرة روجرز، التي جفّ حبرها دون أن تحقق أي نتيجة تُذكر.

وفي آخر فصول التجربة الحافلة بالمحاولات والتقلبات لتحقيق التحرر العربي الذي استوطن الفكر الناصري، كان موت تلك المراجعات ومعها ضرورات التعامل الواقعي مع الأحداث. فهزيمة 1967 فتحت عليه نيران ثورة سياسية مضادة ومحاولة تطويق دولية، وقد أدرك عبدالناصر يقيناً أنه سيدفع ثمنها، وسيكون ضحية ذلك التوتر التراجيدي لتبدل المواقف تجاه الزعيم، الذي كان بحاجة لتلك المصارحة كمتنفس أخير للعقلانية السياسية التي وصلت متأخرة، وخسرت فرصتها في الحسم التاريخي لإنقاذ الناصرية ومعها قضايا الأمة العربية... حتى اللحظة الراهنة.

* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق